يعد الزجاج المعشق أحد أبرز الفنون القديمة التي تروي روائعها في العديد من المساجد والكنائس والقصور التاريخية فصولا من الحضارة الإسلامية وتشهد على دقة وبراعة الصانع المسلم.
ويتجلى ذلك الفن البديع فيما تحتويه المساجد والقصور من نقوش على الزجاج في التكوينات الزخرفية الرائعة من العناصر والأشكال النباتية والهندسية الدقيقة والتي قلما توجد في معظم البلدان الأوروبية.
وعرف الزجاج منذ بداية التاريخ فقد وجدت أدوات كثيرة من الزجاج الطبيعي في أماكن متفرقة من العالم وقد كان لاكتشاف النار أثر كبير في قيام الصناعات التي تعتمد على الحرارة مثل الفخار والزجاج.
ويرجع الدكتور محمد زينهم الأستاذ في كلية الفنون التطبيقية في جامعة حلوان اكتشاف الزجاج إلى عدة قرون قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام وإن كان الزجاج المسطح المستخدم في تجميل الفتحات المعمارية كالزجاج المعشق بالرصاص لم يتطور حقا إلا في العصور الوسطى، عندما امتلأت أوروبا بالكنائس وإذ شهدت مناطق متعددة من الغرب المسيحي ظهور الفن الدقيق للوحات الزجاجية التي تبرزها الألوان الزاهية المتلائمة التي كانت تزين الكنائس والتي ساعدت على انتشار الدين في أوروبا عن طريق إثارة الشعور بعرض مشاهد من حياة القديسين في الأيقونات الموجودة بتلك الكنائس.
فنون الفراعنة: وقد عرف الفراعنة القدماء الزجاج وتشير العديد من البرديات إلى ما يؤكد أن المصريين القدماء أول من صنع الزجاج وعرفه، فقد وجدت في مقابرهم اقدم آثار لهذه المادة حيث كانوا يصنعونها قبل الميلاد بحوالي أربعة آلاف عام وهناك بعض الأعمال من الخرز والتعاويذ الزجاجية مؤرخة بهذه الفترة.
وقد عثر في مصر على قضيب من الزجاج عليه نقوش ترجع إلى عهد الملك “أمنحتب الثالث” وما زال هذا القضيب الزجاجي محفوظا في متحف برلين وفي متحف المتروبوليتان للفن في نيويورك كأس خاصة بالملك تحتمس الثالث وهي من الآثار التي تدل على براعة قدماء المصريين في صناعة هذا الفن.
العصر الإسلامي: عندما اختلط العرب بالحضارات الإغريقية والرومانية تأثروا بهذه الحضارات، وكانت الاسكندرية مركزاً مهماً لصناعة الزجاج في ذلك الوقت حينما دخلت مصر في حوزة الإسلام، فقد تأثر العرب بهذا الفن وحاولوا تطويره ونقل مراكز صناعته إلى المدن الرئيسية مثل دمشق الفسطاط قرطبة، وقد كانت المنتجات الزجاجية تمتاز بالنقوش البديعة والآيات القرآنية.
وفي عهد الدولة الطولونية جدد احمد بن طولون مصانع الزجاج في الإسكندرية ورمم المنارة وأصلح المرآة الزجاجية وصنع الموازين من الزجاج بعد اعتمادها بالختم الخاص بالسلطان وقد زين الجامع الخاص به بالثريات والقمريات الزجاجية.
ويمتاز الزجاج الاسباني عن غيره بأنه يحمل الطابع العربي الإسلامي في الشكل العام والطابع الفينيسي في طريقة صناعته، فقد كانت الأشكال رقيقة تزين برسم لأغصان الأشجار ورسم الطيور وأشكال الوحوش والنيران إذ كانت الأندلس مركزا لصناعة الزجاج، وبرشلونة أهم موانئ تصدير الزجاج في العالم، ولقد أقام العرب في اسبانيا حضارة عريقة لا تزال آثارها باقية حتى الآن، ففي آثار غرناطة قصر الحمراء المزين بالثريات والقمريات الزجاجية، كذلك مسجد قرطبة الذي أقيم في عهد الخليفة عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) الذي زين بأكثر من ثلاثمائة وخمس وستين ثريا ومشكاة وقنديل للزيوت.
الشمسيات والقمريات: ويشير د. محمد زينهم إلى القمريات والشمسيات بوصفها أحد العناصر البارزة في المباني العربية والإسلامية والتي وظفها الفنان المسلم لإيجاد علاقة تجمع بين القيمة الجمالية والنفعية فإحدى وظائفها منع الحشرات التي تتسلل من خارج المبنى إلى داخله وهي بهذا تحقق مبدأ أمنيا يتعلق بحياة الإنسان كما أنها ترشد كم الضوء الداخل إلى المكان وتمنع الأتربة وهي تخفف الأحمال على الأعمدة الحاملة للعقود، ومن هذا يتضح أن لها قيمة وظيفية أساسية نفعية إلى جانب القيمة الجمالية التي تتصل بالإنشاء وتتصل بالتصميم الداخلي للمكان من جانب آخر غير مغفلة للجوانب الروحية بما تغطيه من سكينة وروحانية للمكان.
بين الخامة والمناخ: ويعلق د. محمد زينهم على نشأة هذه التقنية قائلا: استخدم المسلمون الجص “الجبس” للشمسيات والقمريات كخامة أساسية عند التشكيل وهذه الخامة لم تتوافق مع أوروبا لتأثرها بالمناخ ذي الرطوبة العالية اغلب فصول العام، أما في الشرق فلا توجد عوائق تحول دون انتشارها لجفاف الجو من ناحية واستقرار معظم فصول السنة من ناحية أخرى، كما أن الدفء الذي تحدثه الشمس المشرقة والتي تأتلف مع الجبس كخامة أساسية ليس لها تأثير جانبي فيه، غير أن التغيير في المناخ الأوروبي طرح على الفنان الأوروبي فكرة استبدال الجص بمعدن طيع سهل هو الرصاص أو بلاط الأسمنت الصلب بعد الجفاف، هاتان الخامتان مع الزجاج الملون جعلت لأوروبا تقنيتين معروفتين تعكسان التوافق بين الخامة والمناخ هما فن الزجاج المؤلف بالرصاص، وبلاطات الزجاج مع الأسمنت.
وقد استعمل الجص “الجبس” منذ عهد الدولة الأموية في المسجد الأموي في دمشق وفي قصر الحير الغربي الذي نقلت واجهته من مكانها في الصحراء وأعيد تشييدها في المتحف الوطني بتلك المدينة، كما توجد الشبابيك الجصية في مسجد عمرو بن العاص وأحمد بن طولون في القاهرة.
ويضيف د. محمد زينهم قائلا: تكشف الأمثلة السابقة عن حذق الصانع العربي في تلك العصور في رسم المشبكات الجصية، وإذا كان الصانع العربي قد ورث المشبكات الجصية عمن سبق من الأمم فإنه كما كان دأبه دائما لم يقف جامدا عند حد النقل عن غيره، بل نراه يبتكر نوعا جديدا من الشبابيك الجصية يجمع فيها بين الجص والزجاج المختلف الألوان وإذا كانت هذه الطريقة قد ظهرت في مصر لأول مرة في قبة الصالح نجم الدين أيوب فإن البحث الأثري اثبت أن العرب قد عرفوا هذه الطريقة منذ العصر الأموي، إذ وجدت بقايا الزجاج الملون في قطع من الشبابيك الجصية عثر عليها في قصر الحير الغربي الذي أشرنا إليه، كما وجدت كذلك في القصور العباسية التي كشفت عنها الحفائر الأثرية في الرقة والرصافة بالشام.
كان ابتكار هذه الشمسيات والقمريات بدافع من الرغبة في تخفيف حدة الضوء في القصور التي شيدها الخلفاء في الشام ثم استعملت في المساجد ذات الصحن المكشوف للغرض نفسه، وانتشر هذا النوع من الشبابيك في العمائر الدينية، وتعرف هذه الشبابيك عادة باسم القمرية إذا كانت مستديرة وباسم الشمسية إذا كانت غير مستديرة، وأقدم شباك منها محفوظ في المتحف الإسلامي في القاهرة وأصله من جامع الأمير “قجماس”، الذي يرجع تاريخه إلى أواخر القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي.